في عالمٍ يتجه نحو تعزيز الوعي بالصحة النفسية ومع تزايد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، يبقى اكتئاب ما بعد الولادة موضوعًا يحتاج إلى المزيد من الانتباه والدعم، حيث يصيب اكتئاب ما بعد الولادة حوالي 1 من كل 7 أمهات، ومع ذلك لا يزال هذا الموضوع يُعتبر من المحرمات في الكثير من الثقافات مما يجعل الأمهات يشعرن أكثر بالعزلة، والقلق، والذنب، مما يجعل مرحلة ما بعد الولادة فترة مليئة بالتحديات والمخاوف لتصبح هذه المرحلة نقطة تحول حاسمة في حياة العديد من الأمهات. وفي هذا المقال، سنستكشف الأسباب وراء هذا الاكتئاب، وكيفية التعرف عليه وعلاجه بشكل فعال.
ما هو اكتئاب مابعد الولادة؟
يُعرف اكتئاب ما بعد الولادة (PPD) أنه اضطراب مزاجي يؤثر على الأمهات خلال سنة واحدة بعد الولادة، وفقًا للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، الطبعة الخامسة (DSM-5)، يُدرج اكتئاب ما بعد الولادة الآن في مصطلح الاكتئاب في فترة ما حول الولادة، حيث تُصنف نوبة الاكتئاب الكبرى التي تبدأ أثناء الحمل أو في غضون 4 أسابيع بعد الولادة على أنها اكتئاب محيط بالولادة. وتشمل هذه العبارة كل من الاكتئاب ما قبل الولادة وبعدها، ولا يعترف DSM-5 باكتئاب ما بعد الولادة ككيان منفصل، بل يُدرج PPD ضمن التشخيص الأوسع للاكتئاب المحيط بالولادة.
وعلى عكس “الكآبة المؤقتة”، التي عادةً ما تحل في غضون بضعة أسابيع، فإن PPD أكثر شدة ويمكن أن يستمر لعدة أشهر إذا لم يُعالج.
لذلك يجب أن يكون الفحص للكشف عن PPD جزءًا روتينيًا من رعاية ما بعد الولادة حتى يتم تشخيصه والتعامل معه قبل حدوث تطورات خطيرة من الممكن أن تؤذي الأم أو المولود.
أعراض اكتئاب ما بعد الولادة
تتفاوت أعراض الاكتئاب المحيط بالولادة وتتراوح من خفيفة إلى شديدة ومن قصيرة إلى طويلة الأمد، مما يؤدي إلى اختلاف أنواعها ومسمياتها أيضًا، فهناك:
- الاكتئاب المؤقت بعد الولادة (Baby Blues): يكون اكتئابًا مؤقتًا يظهر بعد الولادة بأيام وتشمل أعراضه ( القلق، والبكاء، وتقلبات المزاج، والحزن، والتهيج، والشعور بالإرهاق، وضعف التركيز، واضطراب الشهية، وصعوبة في النوم)، وغالبًا ما تزول هذه الأعراض بعد أسبوعين دون تدخل دوائي.
- اكتئاب ما بعد الولادة: في البداية يُشخَص على أنه اكتئاب مؤقت، لكن تكون أعراضه أكثر حدة وتستمر لفترة أطول حتى قد تعيق القدرة على رعاية الطفل وأداء المهام اليومية الأخرى، وغالبًا ما تظهر في الأسابيع الأولى بعد الولادة، ولكن قد تبدأ أيضًا مبكرًا أثناء الحمل أو لاحقًا حتى عام بعد الولادة، وتشمل أعراضه ما يلي:
- مزاج مكتئب أو تقلبات مزاجية شديدة.
- البكاء بشكل مفرط.
- صعوبة في الارتباط بالطفل.
- الانسحاب من العائلة والأصدقاء.
- فقدان الشهية أو الإفراط في الأكل.
- عدم القدرة على النوم أو النوم المفرط.
- الإرهاق الشديد أو فقدان الطاقة.
- فقدان الاهتمام بالأنشطة.
- التهيج الشديد والغضب.
- الشعور بأنك لست أماً جيدة.
- اليأس وعدم الجدوى.
- الشعور بالعار أو الذنب.
- ضعف القدرة على التفكير بوضوح، أو التركيز، أو اتخاذ القرارات.
- القلق الشديد ونوبات الهلع.
- أفكار بإيذاء النفس أو الطفل.
- أفكار متكررة عن الموت أو الانتحار.
إن التعرف على اكتئاب ما بعد الولادة ومعالجته أمر حيوي لصحة وسلامة الأم وطفلها، لأنه إذا تُرك دون علاج يمكن أن يتداخل مع القدرة على رعاية الطفل ويساهم في مشاكل نمو طويلة الأمد لدى الطفل (مثل المشاكل العاطفية والسلوكية)، ومن الممكن أيضًا أن يؤدي إلى توتر العلاقات الأسرية وزيادة خطر الانتحار.
- ذهان ما بعد الولادة: يتطلب ذهان ما بعد الولادة علاجًا فوريًا لأنه يمكن أن يؤدي إلى تصرفات تهدد الحياة، وغالبًا ما يظهر خلال الأسبوع الأول بعد الولادة، وتكون أعراضه: ( الشعور بالارتباك والضياع، ووجود أفكار مهووسة حول الطفل، والهلاوس والأوهام، ومشاكل في النوم، وزيادة الطاقة والشعور بالتوتر، والشعور بجنون العظمة، ومحاولات إيذاء النفس أو الطفل).
أسباب اكتئاب ما بعد الولادة
يُعد اكتئاب ما بعد الولادة حالة صحية نفسية تتضمن مجموعة واسعة من الأعراض الجسدية والعاطفية والسلوكية، وعلى الرغم من أن السبب الدقيق لاكتئاب ما بعد الولادة غير واضح، ولكن يُعتقد أن هناك عدة عوامل تسهم في تطوره، بما في ذلك:
- التغييرات الهرمونية الكبيرة التي تحدث بعد الولادة.
- التأثيرات النفسية الناتجة عن غياب الدعم في فترة ما قبل الولادة وبعدها.
- العوامل الوراثية.
- الضغوط البيئية الناتجة من مشكلات مادية أو اجتماعية.
وتشرح الدكتورة جيسيكا بيتشكوفسكي طبيبة نفسية معتمدة وصاحبة مركز “بيتش هيلث” في تامبا بولاية فلوريدا، أن مشاعر الذنب والخجل في حالة اكتئاب ما بعد الولادة يمكن أن تكون مرتبطة بخلل في بعض مناطق الدماغ مثل القشرة الجبهية الأمامية، وهي الجزء الأكثر تطورًا من الدماغ، مما يسبب خللًا يؤدي إلى تطابق بين شعورك بالإنجاز وشعورك بالفشل”.
بالإضافة إلى ذلك، تشير بيتشكوفسكي إلى أن اكتئاب ما بعد الولادة يمكن أن يؤثر على “شبكة النمط الافتراضي” (DMN)، وهي شبكة من مناطق الدماغ التي تكون أكثر نشاطًا عندما تكونين في حالة راحة.
مضيفةً: “في العادة، تكون هذه المنطقة مخصصة للتفكير الممتع العشوائي عندما يتجول ذهنك ويفكر في مدى روعة حياتك. ولكن مع التحريف العقلي والعاطفي السلبي الذي يجلبه الاكتئاب، يمكن أن يؤدي ذلك إلى التركيز المستمر على السلبيات التي تتعلق بك وعلى عدم قدرتك على أن تكوني أفضل”.
وتقول أيضًا: “يستمر الشعور بالذنب في تغذية نفسه ويتسبب في بعض النتائج السلبية التي كانت الأم قلقة من تسببها بها في المقام الأول، ثم يصبح الأمر نبوءة تحقق ذاتها، مما يجعلها تشعر بالفعل بأن لديها سببًا للشعور بالذنب!”
علاج اكتئاب مابعد الولادة
يتم علاج اكتئاب ما بعد الولادة باستخدام نفس الأساليب المستخدمة في علاج الاكتئاب العام، حيث يتضمن العلاج عادةً العلاج النفسي، مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، بالإضافة إلى استخدام أدوية مختارة ومضادات الاكتئاب. وتُجرى أبحاث مستمرة لاستكشاف خيارات علاجية جديدة لاكتئاب ما بعد الولادة، ففي عام 2019، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) على Zulresso، وهو حقنة مخصصة لعلاج اكتئاب ما بعد الولادة. وفي عام 2023، تم اعتماد أول دواء فموي خاص بعلاج اكتئاب ما بعد الولادة واسمه Zurzuvae من قِبل إدارة الغذاء والدواء أيضًا.
ويجب أن تتضمن التوصيات الدوائية للأشخاص الذين يقومون بالرضاعة الطبيعية مناقشة فوائد الرضاعة، والمخاطر المحتملة لاستخدام مضادات الاكتئاب أثناء الرضاعة، والمخاطر الناجمة عن عدم علاج الحالة المرضية، كما يعتبر خطر مضادات الاكتئاب على الرضاعة الطبيعية منخفضًا نسبيًا، ويمكن تشجيع المرضى على الاستمرار في الرضاعة أثناء تناولها.
7 طرق للتعامل مع اكتئاب ما بعد الولادة
- ممارسة التمارين الرياضية للمساهمة في تحسين المزاج، أو القيام بنشاط بدني بسيط مثل المشي مع الطفل في عربة والاستمتاع بالهواء الطلق.
- تناول الطعام الصحي والمكملات الغذائية يساعد في تحسين الحالة العامة وتزويد الجسم بالعناصر الغذائية الضرورية.
- حاولي إيجاد وقت لنفسك بعيدًا عن المسؤوليات اليومية، ويمكنك طلب المساعدة من الأقارب والأصدقاء لقضاء بعض الوقت بمفردك.
- حاولي تنظيم نومك لأن قلته قد تزيد من أعراض الاكتئاب، جربي أخذ قيلولات خلال النهار أو الذهاب للنوم مبكرًا، وفكري في ضخ الحليب لتوفير تغذية الرضيع ليلًا من قبل شريكك.
- التركيز على الأحماض الدهنية أوميغا-3 ويمكن الحصول عليها من مصادر بحرية أو مكملات غذائية.
- مقاومة العزلة والحديث مع الآخرين عن مشاعرك قد يساعد في تحسين المزاج.
- إعادة تقييم الرضاعة الطبيعية، فمع أنها تكون أحيانًا عاملًا في الحد من مخاطر الاكتئاب، لكن بعض الأمهات يشعرن بتغيرات عاطفية خلال الرضاعة، كالشعور بالحزن أو الانزعاج بسبب متلازمة انبعاث الحليب العاطفي D-MER.
المصادر:
- https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK519070/
- https://www.medicalnewstoday.com/articles/237109
- https://www.healthline.com/health/depression/postpartum-depression#finding-support
- https://www.healthline.com/health/depression/how-to-deal-with-postpartum-depression
- https://www.healthline.com/health/postpartum-depression/is-ppd-hereditary
- https://www.healthline.com/health/postpartum-depression/coping-strategies-for-guilt#ways-to-cope
- https://www.mayoclinic.org/diseases-conditions/postpartum-depression/diagnosis-treatment/drc-20376623
GIPHY App Key not set. Please check settings